
توثيق المعاملات العقارية في إطار مدونة الحقوق العينية
مريم الطاشي (الدكتورة في القانون الخاص)
إن أهمية العقود المتعلقة ببيع العقارات جعلت المشرع المغربي يخصص لها قواعد صارمة تهدف إلى إضفاء القوة الإثباتية لهذه الاتفاقات، فنجده يستعمل صيغة الوجوب في ضرورة إثبات كل العقود الابتدائية والنهائية لبيع العقار في طور الإنجاز بالكتابة الرسمية أو بموجب عقد ثابت التاريخ محرر من طرف مهني ينتمي لمهنة قانونية منظمة يخولها قانونها الأساسي تحرير هذه العقود تحت طائلة البطلان.
ومن جهة أخرى، فقد نص الفصل 489 من قانون الالتزامات والعقود على أن الكتابة هي للإثبات وليست شكلية في البيوع، وفي هذا الإطار أصدرت استئنافية طنجة قرارا جاء في إحدى حيثياته ” وحيث أن إثبات البيع الذي ينصب على عقار يطبق بشأنه الفصل 489 قانون الالتزامات والعقود خصوصا وأن المدعى عليه ينكر وقوعه وأن إثبات وقوعه بسلوك الطريق التي اختارها المستأنف لاتستقيم مع المقتضيات القانونية لما فيه من مخالفة لمقتضيات الفصل المشار إليه..”46.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أضاف المشرع فقرتين لمضمون الفصل 3-618 خول بمقتضاهما لوزير العدل صلاحية تحديد لائحة سنوية بأسماء المهنيين المقبولين لتحرير هذه العقود مع إمكانية إدراج أسماء المحامين المقبولين للترافع أمام محكمة النقض ضمن هذه اللائحة، وذلك طبقا للمادة 24 من القانون رقم 28.08 المتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة -كما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا-47.غير أن ما يلاحظ أن هذه الازدواجية التي كان المشرع المغربي يبتغي تجاوزها لازالت مطروحة على مستوى التطبيق الفعلي لمدونة الحقوق العينية في علاقتها ببعض التشريعات الخاصة ببعض الأنواع من العقارات، ومن بين النقط الجوهرية التي أثارت إشكالا عمليا وفقهيا نجد مؤسسة الهبة والصدقة بين المادة4والمادة 274 من القانون39.08 المتعلق بالحقوق العينية من جهة، والمادة 12 من القانون18.00 المتعلق بالملكية المشتركة من جهة ثانية.
فمن خلال قراءة متأنية لهذه المواد يمكن أن نتساءل، ما مصير عقد هبة أو صدقة محله عقار خاضع لنظام الملكية المشتركة، وحرره محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض أو أي مهني آخر طبقا للمادة 12 من القانون 18.00، علما أن المادة 4 من مدونة الحقوق العينية استبعدت جميع مهني التوثيق من تحرير التصرفات العقارية إلا إذا تعلق الأمر بالعدول أو الموثقين أو المحامين المقبولين للترافع أمام محكمة النقض، ويضاف إلى ذلك ما نصت عليه المادة 274 من نفس القانون التي استبعدت جميع المحررات باستثناء الرسمية منها متى تعلق الأمر بهبة عقار.إن الإجابة عن هذا الإشكال رهين بالفهم السليم لمدونة الحقوق العينية عموما، وللسياق الذي جاءت فيه المادة 4 على وجه التخصيص.
فبعد الجدل الفقهي والقضائي الذي أثاره الفصل 489 من قانون الالتزامات والعقود، والذي احتدم بشأن نوعية الشكلية أو الكتابة التي يجب أن تفرغ فيها البيوع المنصبة على عقارات غير محفظة هل هي شكلية إثبات أم شكلية انعقاد. لذلك جاءت المادة 4 من م.ح.ع لتستوعب ضرورة إبرام جميع التصرفات العقارية في شكل محرر رسمي أو محرر ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض، وذلك من أجل القضاء على ازدواجية المحررات وخلق جو من الثقة والائتمان لدى المتعاقدين وحماية حقوق أطراف العلاقة التعاقدية 48. وهكذا نصت المادة 4 أعلاه، غير أن إمكانية الخيار التي منحها المشرع للمتعاقدين بموجب هذه المادة، بين سلك طريق الرسمية المتمثل في التوثيق العصري أو التوثيق العدلي من جهة وبين سلوك طريق المحررات العرفية المتمثل في المحامي المقبول للترافع أمام محكمة النقض، ليست دائما ممكنة أو مفتوحة أمام المتعاقدين. ولذلك نجد أن المشرع قيد الأطراف وألزمهم بإتباع طريق الرسمية فقط – تحت طائلة البطلان- في مجموعة من التصرفات الناقلة للملكية وغيرها49كما هو الحال بالنسبة لعقدي الهبة50والصدقة51 فــأين يتجلـى هــذا القيــــد؟ ولماذا استبعد المشرع إمكانية تحرير عقدي الهبة والصدقة بطريقة عرفية أمام محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض؟
فلما كانت الهبة والصدقة من أهم وسائل اكتساب الملكية العقارية فإن المشرع خصها بضمانات خاصة بعد ما كانت تخضع لأحكام الفقه المالكي والراجح المشهور وما جرى به العمل. وأفرد لها 17 مادة، من المادة 273 إلى المادة 289 من مدونة الحقوق العينية، حيث عرفتها المادة 273 من هذا القانون بأنها تمليك عقار أو حق عيني عقاري لوجه الموهوب له في حياة الواهب بدون عوض.
وإذا كانت الهبة لا تقوم إلا بتوفر شروط أربعة وهي: الواهب والموهوب له والموهوب والصيغة 52، فإن المشرع من خلال المادة 274 اشترط ضرورة تحريرها في محرر رسمي فقط – تحت طائلة البطلان- ويكون بذلك قد أخرج عقد الهبة من الخضوع لمقتضيات المادة 4 من م.ح.ع، وأبعاد المحامين من تحرير مثل هذا النوع من العقود. وبذلك لا يمكن تصور عقد هبة في محرر عرفي، وإلا كان مصيره البطلان المطلق. وما يفسر هذا التوجه الجديد الذي سلكه المشرع في التعاطي مع الرسمية في هذا النوع من التصرفات هو حرصه على تفادي النزاعات التي قد تثور بخصوص عقد الهبة.
وقد أحسن المشرع صنعا لما اشترط الرسمية، لأن ذلك من شأنه أولا، تنبيه أطراف العقد إلى خطورة التصرف الذي سيقدمون عليه، وثانيا ضمان التعبير عن الإرادة بشكل صحيح و توثيق العقد بكيفية سليمة من الناحية القانونية ما دام سيصدر من ذوي الاختصاص53.وهنا يجب التذكير على أن كل ما قيل عن عقد الهبة فإنه ينطبق على عقد الصدقة-التي عرفتها المادة 290 من م.ح.ع 54 بأنها تمليك بغير عوض لملك ويقصد به وجه الله تعالى – وذلك بالاستناد إلى أحكام المادة291 من م.ح.ع55، التي أحالت على أحكام الهبة مع مراعاة أنه لا يجوز الاعتصار في الصدقة مطلقا ولا ارتجاع الملك المتصدق به بالإرث.
ومن خلال ما سبق نجد أن كل من عقد الهبة والصدقة لا يخضعان لأحكام المادة 4 من م.ح.ع، لكن الإشكال الذي يثور بهذا الخصوص، هو عندما يتعلق الأمر بتوثيق عقد هبة منصب على عقار يخضع لأحكام الملكية المشتركة وفق ما نصت عليه المادة 12 من القانون 18.00.
فبالرجوع إلى المادة 12 من هذا القانون نجدها تصرح بوجوب توثيق التصرفات التي تجري على الملكية المشتركة كتابة وتركت الباب مفتوحا على مصراعيه أمام أي نوع من التوثيق فإما أن تفرغ هذه التصرفات -الهبة والصدقة مثلا- في محرر رسمي و إما أن تجري كتابة في محرر عرفي ثابت التاريخ يحرر من طرف مهني ينتمي إلى مهنة قانونية ومنظمة، يخول لها القانون إمكانية تحرير العقود 56.
وإذا كان المشرع من خلال المادة 4 قد استلزم أن تكون التصرفات الواردة على جميع الحقوق العينية في محرر رسمي أو عرفي ثابت التاريخ يحرره محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض، واستثنى تصرفات أخرى كالهبة والصدقة من إنشائها بموجب محرر عرفي، فإن المادة 12من القانون 18.00 يمكن الاستناد عليها في إنشاء أو تعديل أو إنهاء أي نوع من أنواع الحقوق العينية الخاضعة لنظام الملكية المشتركة، بما في ذلك جميع العقود المتعلقة بتفويت هذه الحقوق سواء كانت بعوض- كالبيع- أو بدون عوض كالهبة 57 والصدقة، وفي ذلك تعارض تام وتناقض صريح مع ما جاءت به المادة 4 والمادة 274 من م.ح.ع.
ومن هنا نتساءل مرة أخرى هل تعتبر قواعد القانون 18.00 قواعد قانونية خاصة تنظم أنواعا خاصة من التصرفات التي تطبق على أنواع خاصة من الملكيات العقارية التي تخضع لأنظمة خاصة؟ وبالتالي نطبق مبدأ “الخاص يلغي العام في حدود المخالفة”، في حال تعارض مقتضيات المادة 12 من هذا التشريع الخاص (قانون18.00) مع ما ورد بالمادة 4 والمادة 274 من م.ح.ع. وهل المشرع كان واعيا بهذه الخصوصية وقاصدا لهذا التوصيف القانوني أم أن الأمر لايعدو أن يكون سوى تأثر و انعكاس بل وتجلي للثقافة الفقهية لبعض الفعاليات أو “اللوبيات” التي أشرفت على صياغة هذه المواد القانونية؟
فإذا سلمنا بالقول بأن المادة 12 من القانون 18.00 تعد نصا خاصا، تقيد وتخصص ما ورد بالمادة 4 والمادة 274 في حال تعلق الأمر بهبة أو صدقة، فإننا قد نجد لذلك سندا تشريعيا وذلك من خلال ما جاء في الفقرة الأولى من المادة الأولى من القانون 39.08، على أن مقتضيات هذا القانون تسري على الملكية العقارية والحقوق العينية “ما لم تتعارض مع تشريعات خاصة بالعقار”، وكذلك من خلال ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 4 من نفس القانون: “ما لم ينص قانون خاص على خلاف ذلك”. وما يفهم من هاتين العبارتين هو أن أحكام مدونة الحقوق العينية تبسط رداءها على مختلف أشكال الملكية العقارية بالمغرب وما ينشأ عنها من حقوق عينية، طالما أنها لا تتعارض مع أحكام تشريعات خاصة بنوع من أنواع العقارات بالمغرب وبالحقوق العينية التي تترتب عنها58. وما يؤكد صحة هذا القول هو ما نصت عليه المادة 130 من مدونة الحقوق العينية على أنه تطبق على حق الحبس الأحكام الواردة في مدونة الأوقاف، وبالتالي فإن حق الحبس لا يخضع مطلقا لأحكام المادة 4 من مدونة الحقوق العينية 59وإنما تسري عليه مقتضيات مدونة الأوقاف، وقياسا عليه فإن عقد الهبة أو الصدقة المنصب على عقار خاضع للقانون 18.00 لا يخضع هو الآخر للمادة 4 أعلاه60.ولنأخذ كذلك على سبيل المثال، عقد الوقف – وهو تصرف عقاري ينشئ حقا عينيا على عقار وهو حق الحبس- الذي نظمته المادة 25 من مدونة الأوقاف بنصها على: “يتلقى العدول الإشهاد على الوقف. وإذا تعذر تلقي هذا الإشهاد اكتفى استثناء بوثيقة الوقف الموقعة من قبل الواقف مصادق على صحة توقيعها طبقا للقانون”.
فهذه المادة لم تنص على الموثقين ولا على المحامين وغيرهم من ممتهني التوثيق وإنما قصرت الأمر على العدول، وفي حال تعذر الإشهاد العدلي على الوقف فإنه يكتفي بمحرر عرفي موقع من طرف الواقف ومصادق على توقيعه بغض النظر عمن وقعه، فقد يكون الواقف نفسه وقد يحرره له أي شخص آخر وليس بالضرورة أن يكون من أصحاب المهن القانونية المنظمة61 فهذه أيضا مقتضيات مخالفة تماما لما ورد بالمادة 4 من. م.ح.ع وهي مقتضيات وردت في تشريع خاص بالعقار الحبسي، ومن هنا نستنتج أن كلا من عقد الهبة والصدقة متى كان موضوعها عقار يخضع لمقتضيات الملكية المشتركة فإنه ليس ثمة مانع يحول دون إنشاء هذين العقدين صحيحين وفق أحكام المادة 12 من القانون 18.00 المطبق على هذه العقارات، وهو ما نعتبره انتكاسة غير متوقعة تتعرض لها المادة 4.وتجدر الإشارة هنا إلى أمر في غاية الأهمية وهو أنه لا يوجد مستساغ للقول بأن المادة 4 من مدونة الحقوق العينية جاءت متأخرة زمنيا من حيث صدورها لتنسخ مقتضيات المادة 12 من القانون 18.00 الذي جاء متقدما من حيث صدوره مقارنة مع المادة 4، لأن الأمر يتطلب أن يكون هذين النصين القانونيين من نفس المرتبة ومنصبين على نفس الأنواع العقارية حتى يمكن إعمال النسخ 62.
إنه لمن السهل أن نبحث عن مسوغات لهذا النوع من التناقض بين النصوص التشريعية، ومن السهل أيضا أن نقول بأن المادة 4 من م.ح.ع أطرت فقط موضوع المعاملات العقارية التي نظمها ظهير 2 يونيو1918 الملغى، وأنها تعاملت باحتشام مع باقي المجالات العقارية كالتعمير والملكية المشتركة و الإيجار المفضي إلى تملك العقار، وغيرها من النصوص المرتبطة بالعقار و التي بقيت مستبعدة من أحكام المادة 4، أو نقول أن المشرع اتخذ موقفا سلبيا من النصوص الخاصة وتركها على ما هي عليه، وبالتالي فإن مدونة الحقوق العينية تبقى محدودة الأهمية تم نسلم بأمر الواقع.
إن الأمر ليس بتلك السهولة والبساطة التي قد يتصورها البعض، بغض النظر عن المقاصد العامة التي جاءت المادة الرابعة من أجل تحقيقها والمتمثلة في رفع الحرج عن الناس في معاملاتهم و تصرفاتهم العقارية؛ من خلال ما يوفره هذا النوع من التعاقد (الرسمية) من أمن وأمان يضمن حفظ الحقوق لأصحابها. وما حظيت به هذه المادة من اهتمام للباحثين وما أحاطها به الفقه من هالة وتقديس واعتبرها ثورة تشريعية في سبيل تعميم رسمية المعاملات العقارية لا يمكن التخلي عنها وقد اعتبرت مدونة الحقوق العينية منذ صدورها وتنصيصها على هذه الأحكام خطوة جريئة من المشرع، في اتجاه توحيد الأنظمة العقارية والأقطاب المجاذبة لتوثيقها. غير أنه سرعان ما بددت هذه السيناريوهات وكذبت كل التخمينات أمام التلاشي المستمر لأحكام المادة 4 من م.ح.ع، وذلك من خلال تقيدها بسياج من النصوص الخاصة أصبحت معه هذه المادة تفقد بريقها في التشريع العقاري.
وإلى جانب ما ذكرناه آنفا، فإن ما يزيد الطين بلة هو ما جاء به القانون 22.1363 القاضي بتـتميم المادة 174 من مدونة الحقوق العينية والذي استبعد أن تطبق أحكام المادة 4 على إنشاء أو نقل أو تعديل أو إنهاء الرهن الاتفاقي المقرر لأداء دين لا تتجاوز قيمته المبلغ المحدد بنص تنظيمي.
وأمام الموقف الجديد الذي أبان عنه المشرع بموجب المادة 4، في التوجه إلى توحيد توثيق التصرفات العقارية، فإنه بصدور القانون 88.12 المنظم لمهنة وكيل الأعمال محرر العقود ثابتة التاريخ، نخشى أن تمتد صلاحيات هذه الفئة من الموثقين لتطال مجال المادة 4 وتزيد من الخناق المضروب عــليها. وأخشى ما نخشاه هو أن يكون ما أشرنا إليه سابقا مجرد سياقات يتم تهيؤها لتعبد الطريق من أجل تعديل المادة أعلاه.
مريم الطاشي
(الدكتورة في القانون الخاص)