مجتمع

الدكتور عبد المومن “يفض الإشتباه” حول الصلاة خلف وسائل الإتصال بين مؤيد ومعارض

 

ما حقيقة قضية الصلاة خلف وسائل الاتصال وتضارب الآراء حولها؟

هذه القضية من القضايا المعاصرة التي احتيج إلى حكم الله تعالى فيها فتكلم فيها بعض العلماء المعاصرين، لأن الذي ندين الله به أنه لا يعرو محل عن حكم شرعي، وكل ما يستجدّ وسيظهر من القضايا إلا وله في الشرع حكم معلوم، ولذا لا نعجب من حدوث النوازل والقضايا، ولا نستغرب من آراء العلماء الاجتهادية حيالها صحت أم أخطأت.  وحقيقة المسألة وتصورها كامن عند المعاصرين في الاقتداء بالمذياع بوصفه وسيلة من وسائل الاتصال، وكان الحافظ المجتهد أحمد بن الصديق الطنجي قد سئل عن حكم صلاة الجمعة بالبيوت والاكتفاء بالخطبة والصلاة خلف المذياع من قبل أناس من الهند لم يجدوا من يخطبهم بالعربية لتعذر من يتقنها فأرادوا الاستماع إلى الخطبة عبر المذياع مع أن يصلي بهم أحدهم، فأفتى بالجواز بشروط منها: حصول الضرورة لذلك، واتحاد الزمان والمكان، وعدم الاعتياد كراهة الدوام، مع اعتبار الأصل في أفضلية الجماعة وكثرة الخطا إلى المساجد، وتعميرها بالخير والعبادة. فهذا يدل على أن الحكم اجتهادي استثنائي لظرف طارئ، والمستثنيات طارئات على الأصول، وقد يصوب ويخطأ من قبل أهل الاجتهاد، وقد ألحق بهذا الحكم لاتحاد الوسائل ما يسأل عنه الناس اليوم من الصلاة خلف وسائل الاتصال الحديثة، لكنه موقوف على صلاة التراويح والقيام.

 ما هو سبب إثارة القضية في هذا الوقت بالذات؟

الذي أفتى في المسألة من المعاصرين سئل من قبل الجالية ببلجيكا عن حكم الشارع في الصلاة خلف التلفزة أو وسائل الاتصال الحديثة، فأفتى في ذلك بالجواز ولنا عودة إلى رأيه، لكن تواردت الآراء بعده، بعضها فقط لأهل العلم المعتبرين في الفقه والفتوى وهو ما يهمنا، والقضية وطرحها بالذات في هذا الوقت له باعث قوي وهو أن الناس اعتادوا في رمضان أجواء روحانية في الإقبال على الله وتكثير النوافل والرغائب، واليوم في ظل الحجر الصحي وتعطيل المساجد للمصلحة الراجحة سوف يتوقف ذلك، ولكني كنت أرى ولا أزال أن تصور المسألة غير متجه ولا يستقيم في واقعنا نحن بالذات، لأن الصلاة خلف وسائل الاتصال تقتضي وجود جماعة تقتدي بإمام، أو حتى الإمام الراتب وحده، أو مع مأموم، وتسجل الصلاة وتبث مباشرة ويقتدي الناس به لمن قال بالجواز. وهذا أراه متعذرا لأن الجماعة لا تنعقد الآن، والمساجد معطلة بفتوى من المجلس العلمي الأعلى، إلا أن تعلق الأمر بالبث المباشر لوسائل التواصل الاجتماعي فتلك حالة أو نازلة خاصة جدا في تصورها مستعصية في تصديقها، لأن الإمام بشروطه يوجد في المساجد، أما في غيره فيُخشى من التفلت وخروج الأمر عن الصواب، لذا هنالك فرق بين بث مباشر معقول، وبين أمور أخرى لا تنضبط بضابط معين. كيف لنا أن نحسم رأيا شرعيا في المسألة؟ أولا ينبغي ألا ننسى وهذا أمر قد غاب عن الكثير، أن أي معالجة لأي قضية شرعية أو اجتماعية أو غيرها ينبغي أن نستحضر معه سياق الحَجر الصحي، وظروفه، ومدى مناسبته لأي حكم أو اجتهاد أو قرار، وللحكم الشرعي بالذات، إذ الإحاطة بمحلّ الحكم يستدعي ذلك حتما، ومن ثم فهذه الظروف تضبط لنا إلى حد ما مشروعية التصرفات، وأحكامها قبل الخوض فيها، والسياق له دور في الأحكام الشرعية. أما القول برأي حاسم في المسألة شرعا فمتعذر، لأن الاجتهاد مبني على الظن، وقضاياه لا تخلو دوما من الرأي والرأي الآخر، لكن للمجتهد العارف الترجيح بين الآراء وفق ميزان ضابط. فلا يعتبر من الخلاف إلا ما كان معتبرا شرعا، وكان قويا، وكان له حظ من النظر، والترجيح بين الآراء المتعارضة باب عظيم في الأصول، فإن سلمنا بذلك فإن المسألة الواردة قد ذهب فيها العلماء مذهبين: 1ــ القول بالمنع، والذين رأوا منع الاقتداء بوسائل الاتصال الحديثة بنوه على قاعدة سد الذرائع وقاعدة الاحتياط للعبادات، لأنه لا تحديد إلا بدليل، والتحديد لا يثبت إلا من جهة التوقيف لا من جهة الرأي، وهو جار في الهيآت والصور والكيفيات وجميع الأحوال، والمسألة تتعلق بالعبادات، وشأنها توقيفي، والاتصال غير حاصل بين الإمام والمأموم، والمشاهدة متعذرة ومن ثم قالوا بالمنع لعدم حصول الاقتداء، ومذهب مالك رحمه الله ألزم وأتبع في الباب. وهذا رأي له وجاهته شرعا وعقلا، وقد ذهب إليه العلامة مولود السريري والعلامة محمد الروكي..، والمستمسك به تمسك بهدى، إلا أن المنع فيه عند البعض لذريعة ترك الناس وهجرهم المساجد فيه نظر، فلو منع خشية الاختلاط والاجتماع عند الاقتداء بتلك الوسائل لكان أولى، أما الإفضاء إلى المفسدة الأولى فليس على الظن الغالب ولا الظن الكثير الذي ليس بغالب ولا نادر، لأن من استفتى في الباب غرضه المداومة على تعمير بيت الله، ومن ثم فلو ارتفع العارض لرجع الحكم إلى أصله، وذرائع مثل ذلك يحقق في مناطات التذرع بها من خلال مخايل الحال وكثرة القصد في الوجود ومقاربة الاعتياد، وهذا أمر لا يعقل أصلا في الوجود، ولم نعهده لا من قبل ولا من بعد، فالناس إما مصل أو تارك للصلاة. نعم يخشى التذرع إلى الاختلاط والتجمعات متابعة للصلاة خلف أي وسيلة، وهي مفسدة آكدة، محظورة شرعا وعادة وعقلا. ثم استحضار وجه المصلحة عند القائلين ـــ بالجواز ــ يجعل الذريعة الأولى معارضة بذرائع أقوى منها، وهي حسب تعليل المجيزين التوسل إلى مصلحة الجماعة عبر وسائل الاتصال للضرورة، والمحافظة على الأوقات اقتداء واهتداء، وهذا الاستصلاح قائم ما تحصل العارض، وهو منتف بانتفائه، لذا تبقى الذريعة الثانية ومفسدتها آكدة وهي تقارب بابة حفظ الدين والنفس معا. 2ــ القول بالجواز: وأول من قال به من العلماء المعاصرين، الشيخ أحمد بن الصديق، ولم يقل بالجواز مطلقا كما ذهب إليه بعض الفقهاء، وإنما قيّده بما قدمناه، مع تعيين الحكم وتخصيصه بالجمعة وسماع خطبتها، ولعله بنى استنباطه على جعل الخطبة فرضا وشرطا من فرائض وشروط الجمعة، وهو ما كان حافزا على اعتبار الجواز لما يحصل من بثها مباشرة على الإذاعة. وبناء القول على الجواز أو المنع هنا دائر على تحديد المناط في الاتصال والمشاهدة والسماع، وهو ضابط لحكم الاقتداء، وقد ذهب المالكية والشافعية تحديدا لكمالية الاتصال، واعتبارا لمعياري القرب والبعد فيه، إلى اعتبار البعيد كالقريب، وهو معتبر في عمل الصحابة وآثارهم وقد روي ذلك عن أنس بن مالك، وأبى هريرة، وسالم، وابن سيرين، وكان عروة يصلى بصلاة الإمام وهو فى دار بينها وبين المسجد طريق، وعن عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: ” صَلَّى رَسُولُ اللهِ – صلى اللهُ عليه وسلَّم – فِي حُجْرَتِي وَالنَّاسُ يَأتَمُّونَ بِهِ مِنْ وَرَاءِ الْحُجْرَةِ، يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ “. وهو معلل في بعض الآثار بضيق المساجد وامتلاء الرحاب. والآثار في الباب ترجح صورة السماع لأن العلم يحصل بسماع التكبير، فيجري مجرى الرؤية، ومنه الاقتداء بالعميان والعكس، وهذا ما ذهب إليه العلامة الحسين آيت سعيد والعلامة محمد الحسن ولد الددو قياسا منه للمذياع على الميكروفون بوصفه ناقلا لصوت الإمام وليس هو صوت الإمام لأنه يحول صوته عبر ذبذبات، والمذياع والتلفزة قد ينقلان الصوت كاملا… وجماع الرأيين بإيجاز يحيل في نظري على استيعاب المذهب المالكي لمستندهما ومن ثم يقصر الخلاف، فيُخرّج القول بالمنع على أصوله، ويخرج القول بالجواز على بعض فروعه، وليست هي في جملتها إلا آثار ثابتة عن الصحابة الكرام، قال أحمد بن صالح: نظرت في أصول مالك فوجدتها شبيهاً باثني عشر ألف حديث.

ما هي الرسالة للناس اليوم بخصوص قضية الصلاة خلف وسائل الاتصال؟

الناس في سعة من أمرهم، والمسألة خلافية، والمفسدة المحققة التي ينبغي أن يحترز ويحتاط منها هي الاجتماع والاختلاط في الدور أو الأسطح أو الأزقة أو غيرها، وإقامة الجماعات في ذلك كله لا تخفى مفسدته، ولذا كان رأي المجلس العلمي الأعلى سديدا بصلاة الناس في بيوتهم، فلو استطاعوا أن يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله فهو جميل، وصلاة النوافل في البيت أفضل، وقراءة القرآن من المصحف في الصلاة لا حرج فيها، وتعهّد القرآن في هذا الوقت بالذات هو مقصود الشرع من الصيام، فالصيام والقرآن شفيعان للعبد يوم القيامة.. وما يسأل الناس عنه من الائتمام بوسائل الاتصال الأخرى بشرط الاتحاد في الوقت والمكان، وإن كان التوقيت في النافلة مخففا، بناء على التخفيف والتيسير الكلي فيها، فلا بأس من اعتبار القول بالجواز جار على ما تقدم أيضا، بشرط معرفة رتبة الإمام الذي يؤتم به، ووثاقة الاتصال السمعي، اعتبارا للمقاصد الحسنة، ومنعا للجرائر والمشغلات وهو الأصل في مذهب مالك بل الحرف الذي يدور عليه، إذ قد يترجح بالاشتغال بالنوافل في البيوت، والانضباط لها، الانشغال عن الخروج إلى الشوارع، والاجتماع الذي لا تحمد عقباه. ثم القصد إلى الاجتماع على الاقتداء أوقر في النفوس وأعظم في الصدور، ولما لم يتحصّل كان للوسائل حكم المقاصد، ويغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها، والمقام مقام النوافل، ومن قواعد المقاصد اعتبار الأسباب الموجبة للقرب،

والله تعالى أعلم وأحكم.

 

[totalpoll id="28848"]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى