كتاب الرأي

الحاجة لهيأة تقنين وضبط الكهرباء

د. عبد اللطيف بروحو / خبير في العلوم المالية العامة

 

عرفت المملكة منذ حوالي عشرين سنة انفتاحا اقتصاديا متدرجا، فرض بالمقابل إرساء آليات الضبط والتقنين لمواكبة هاته الاستراتيجية، في ظل الحاجة لضمان استقرار أسعار المواد والمنتجات الأساسية، ولحماية الاقتصاد الوطني من الاختلالات الضارة بالمنافسة الحرة، وبشكل خاص ضبط التكلفة وتعريفة الأسعار بالنسبة للمواد والمنتجات ذات الحساسية البالغة بالمملكة.
ويعتبر فتح مجال لإنتاج وتسويق الطاقة الكهربائية منذ سنة 2010 مثالا على هاته الدينامية، التي تحتاج بالضرورة لتتبع دقيق وضبط وتقنين إجرائي ومؤسساتي فعال، بالنظر لطبيعة هذا المنتوج وحساسيته بالنسبة للسيادة الوطنية ولحاجيات المجتمع.

لكن بالمقابل لوحظ أن النقاش حول معايير التعيين أدى من جهة إلى التشكيك في جدوى وأهمية هاته الهيأة من أساسها، وهو أمر خطير، خاصة وأن المهام والوظائف المخولة قانونا لهاته المؤسسة ذات أهمية بالغة بالنسبة لهذا المجال المرتبط بضمان استمرارية التزويد بالطاقة الكهربائية.
ومن جهة ثانية، عادة ما يترافق مثل هذا الجدل السياسي مع التركيز على جوانب شكلية أو جزئية، دونما اعتبار لأهمية وظائف المؤسسة وخطورة عملها وآثار قراراتها على القطاع الكهربائي، خاصة في ظل حساسية اختصاصاتها المتعلقة بتكلفة نقل الطاقة الكهربائية وتوزيعها، ومن ثم بمخاطر ذلك على الحياة اليومية للمواطنين وللمرافق والتجهيزات العمومية والقطاعات الاقتصادية.
لذا تبدو الحاجة ملحة للوقوف على خلفيات إحداث هاته الهيأة، وخطورة أدوارها ووظائفها، وحساسية مجالات عملها المحددة قانونا، والتي تتشابه لحد كبير مع المؤسسات المحدثة من قبل عدد من الدول المتقدمة.

أهمية مواكبة التحرير التدريجي لإنتاج الكهرباء:
إن الانفتاح والإدماج تدريجي للقطاع الخاص كان من ضمن الاستراتيجيات الرائدة التي اعتمدها المغرب لضمان أمنه الطاقي، وتقليص تبعيته لمصادر الطاقة المستوردة والمكلفة ماليا واقتصاديا.
وكان الرهان منذ سنوات على توسيع مجال إنتاج وتسويق الكهرباء وطنيا داخليا أو بينيا على المستوى الدولي، في ظل منظومة تحافظ على وجود مشتري واحد تابع للدولة بالنظر لحساسية هذا القطاع بالنسبة للسيادة الوطنية، ويتعلق الأمر بالمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب باعتباره مالكا وحيدا للشبكة الرئيسيّة للتوزيع.
وبالتالي أصبحت مصادر إنتاج الطاقة الكهربائية متنوعة في مصادرها (حرارية، هيدروليكية، شمسية، ريحية…)، ومتعددة من حيث المنتجين والموزعين، وذلك خلافا لما كان في السابق حيث كان المجال احتكاريا من قبل المكتب الوطني لعقود طويلة.
كما أن ضبط قطاع الكهرباء والإشراف عليه يتوزع بين عدة قطاعات حكومية، سواء على مستوى الوزارة المكلفة بالطاقة (الوصية على المكتب الوطني)، ووزارة الداخلية الوصية على الجماعات الترابية (المكلفة مبدئيا بالتوزيع)، ووزارة الشؤون العامة المكلفة بمتابعة واقتراح تقنين أسعار الكهرباء… وهو ما لا يحقق فعالية ونجاعة الضبط والمراقبة والتتبع، ويطرح إشكالات انسجام الخطط والبرامج وعمليات التقنين في حد ذاتها.

حساسية تعدد الفاعلين في مجال الكهرباء والحاجة للتقنين:
إذا كان قطاع الكهرباء يمثل حساسية بالغة على مستوى السيادة الوطنية وضمان استمرارية هذه الخدمة العمومية، فإن التفكيك التدريجي للاحتكار الذي كان على مستوى إنتاج الطاقة الكهربائية، والذي يحتاج لمواكبة حثيثة والتقنين دقيق، توازيه الحاجة أيضا لضمان استمرارية واستقرار تكلفة عمليات التوزيع على المستهلك النهائي (الأسر والمهنيين والإدارات…) والتي يقوم بها كل من المكتب الوطني والوكالات المستقلة وشركات التدبير المفوض.
وبالمقابل نجد أن عمليات التصدير يقوم بها كل من المكتب الوطني والوكالة المغربية للطاقة الشمسية، في ظل السماح أيضا بولوج منتجين خواص لمجال إنتاج الطاقة الكهربائية منذ عدة سنوات بعد صدور القانون رقم 09-13، وجلها موجهة للتصدير أو لزبناء الجهد العالي أو المتوسط. ويخولهم هذا القانون أيضا إنتاج الكهرباء لفائدة مستهلكين محددين مع حق الولوج للشبكة الوطنية للتوزيع ذات الجهد المتوسط.
وهذا التنوع الذي يرتبط بإنتاج ونقل وتوزيع مادة جد حساسة لحياة الدولة والمواطنين والفاعلين الاقتصاديين، فرض وضع آليات للضبط والتقنين في شكل مؤسسة عمومية مستقلة ومتخصصة، ترتكز مهامها على تتبع كل من الإنتاج واستعمال الشبكة والتوزيع الرئيسي ثم التوزيع النهائي وضمان نجاعة استثماراته، ثم على مستوى ضبط وتحديد تكلفة النقل والتوزيع، وهو ما يمثل بدوره حساسية بالغة لدى الأسر والإدارات والمقاولات على حد سواء.

أهمية إحداث هيأة ضبط وتقنين الطاقة الكهربائية:
خلافا لما يحاول البعض ترويجه، تكمن أهمية هاته الهيأة في وظيفة حيوية تتعلق من جهة بتحقيق التكامل بين الأسواق والشبكات الطاقية الوطنية والإقليمية، ومن جهة ثانية بمواكبة تعدد منتجي الطاقة الكهربائية وتحديد تكلفة إنتاجها وتسويقها.
وإذا كان الجدل حول تعيين بعض أعضائها قد شوش على هاته الهيأة وعلى أدوارها ووظائفها، فإن الخطورة تكمن في ضرب المؤسسة أو إضعافها.
فهذه الهيأة ليست مجرد مؤسسة استشارية أو ذات وظائف ومهام موسمية أو موضوعاتية، وإنما هيأة تقنين حقيقية، تمارس مهام الضبط والتقنين والمراقبة، وقد تصدر عقوبات وفق المسطرة والإجراءات المحددة في المادة 36 من القانون المنظم لها.
وهي مؤسسة ذات اختصاص حساس وذا أهمية بالغة، وتتطلب تفرغا تاما ومتابعة يومية وعملا مستمرا، يستحيل معه على أعضائها ممارسة مهام أخرى عمليا وقانونيا، بحيث يشتغلون داخل الهيأة ويمارسون عملهم بها كامل الوقت (المادة 25).
ويشترط في أعضائها الخبرة القانونية أو الاقتصادية أو في مجال الطاقة، وهو ما حرصت عليه رئاسة الحكومة في التعيينات المخولة لها قانونا، مما يقوي هاته الهيأة مؤسساتية وتدبيريا.
وقد حاول المشرع وضع قواعد واضحة للتعيين، يتوجب الالتزام بها، كما وضع قواعد تنافي العضوية بها مع أية وظيفة عمومية أو انتداب انتخابي أو وضعية تضارب المصالح (مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في منشأة تعمل في مجال الطاقة).
وبالمقابل تم إحداث هيأة موازية لها، ويتعلق الأمر بلجنة فض النزاعات التي تعتبر هيأة مستقلة في تكوينها وتأليفها ومهامها واختصاصاتها، وما أثير عن التعويضات أدى بدوره لتحريف النقاش وخلط الأمور، سواء تعلق الأمر بالمبالغ الخامة للتعويضات التي ستخضع للاقتطاعات الإجبارية، والتي تتقارب مع تعويضات عدة مجالس وهيآت أخرى أقل أهمية وحساسية، أو بالخلط بين تعويضات أعضاء الهيأة المتفرغين كليا للاشتغال بها، والتعويضات عن الحضور المخولة حصريا لأعضاء لجنة فض النزاعات.

حساسية وخطورة مهام واختصاصات الهيأة:
كان الهدف الأساسي من إحداث الهيأة بموجب القانون 48.15 يكمن في ضمان حسن سير السوق الحرة للكهرباء (المادة 18) وضبط ولوج المنتجين الذاتيين للشبكة الكهربائية الوطنية، وعلى وجه الخصوص ضبط وتحديد التعريفة الكهربائية (المادة 14).
وهنا تكمن الأهمية القصوى لمثل هاته المؤسسة، والتي توجد مثيلاتها في عدد من الدول الغربية من قبيل فرنسا وبلجيكا وكندا، وباختصاصات ومهام متشابهة إلى حد كبير، وبمجال مراقبة الاستثمارات وضمان نجاعتها في هذا القطاع ذي الحساسية البالغة.
ففي فرنسا مثلا، حرصت لجنة التقنين الطاقي على تدقيق الاستثمارات الكبرى المتعلقة بنقل الطاقة الكهربائية لسنة 2019 والتي تناهز 33 مليار أورو، ووضعت قواعد نجاعتها المتعلقة بنوعية الاستثمارات وتكلفتها وأثرها على القطاع، وهو اختصاص مشابه للهيأة الوطنية لضبط الكهرباء بالمغرب والخول لها بموجب المادة 18 من القانون، مما يؤكد حساسية وأهمية وظائفها.
كما تتشابه المهام والاختصاصات سواء مع اللجنة الفرنسية للطاقة، أو وكالة الطاقة بكندا، أو لجنة تقنين الكهرباء والغاز ببلجيكا، والأمثلة المقارنة كثيرة ومتعددة، ومتشابهة لحد كبير مع المنظومة المغربية في محاور كثيرة.
فالهيأة الوطنية لضبط الكهرباء بالمغرب تمارس بدورها مهام واختصاصات ذات حساسية وأهمية بالغة، تتعلق من جهة بتحديد تكلفة استعمال الشبكة الوطنية لنقل الطاقة الكهربائية، أو تحديد سعر وتكلفة توزيع الكهرباء بمختلف أصنافه (الجهد العالي والمتوسط والمنخفض).
كما تختص بالمصادقة على أسعار وتكلفة الولوج للروابط الكهربائية، وهو ما يرتبط بآليات ضبط وتقنين تكلفتي الإنتاج والتوزيع على حد سواء.
ومن جهة ثانية تصادق على برامج الاستثمارات المتعلقة بشبكات نقل وتوزيع الكهرباء، وهو ما يضمن جودة واستمرارية تزويد السوق الداخلية بالطاقة الكهربائية، وضبط مؤشرات جودة الشبكة الوطنية لنقل وتوزيع الكهرباء.
كما تعتبر هيأة رقابة وضبط حقيقيين، وتتوفر على مراقبين وأعوان محلفين، ولها حق الاطلاع على جميع الوثائق والمعلومات المتعلقة بالمنتجين والناقلين وموزعي الطاقة الكهربائية والذين يوجدون تحت رقابتها.
وهاته المهام والوظائف بقدر ما تجعل منها هيأة ذات أهمية بالغة، فإن مخاطر الدعوة لحذفها أو تحجيم دورها أخطر بكثير من أي شيء آخر.
فالحاجة ملحة اليوم لتعزيز أدوار هاته الهيأة وإصلاح ما قد يشوبها من نقائص، علما أن قطاع إنتاج ونقل وتوزيع الكهرباء يعتبر ذَا حساسية بالغة بالنسبة للسيادة الوطنية، ولا يحتمل إضعافًا للهيأة المكلفة قانونا بضبطه وتقنينه ومراقبة إنتاجه وتوزيعه.

[totalpoll id="28848"]

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى