فؤاد السعدي يكتب: ريان.. فجر انبعاث انسانية
غادرنا “السي ريان” كما كان يحب أن ينادوه قيد حياته إلى دار البقاء حاجزا لنفسه ولمنطقته “إغران” أكبر مساحة ضوء منذ عقود، وتحوّل على مدار خمسة أيام إلى أيقونة أمل أوجعت الضمير العالمي، وحشدت تعاطف الناس عبر العالم، وأنتجت عملية إنقاذه فكرة أعمق وأسمى وأقدس ألا وهي النفسُ البشرية الواحدة التي اعتادت المَسامع على الاستهانة بقيمتها حتّى صارت مجرد أرقام، وأصبح يموتُ العشرات كأنّهُ حدَثٌ عابر، ويُقتَل المِئات وكأنّهُ روتين متكرّر، يُذبَح الأطفال في شَتّى بقاع الأرض فنمرّ على الخبر مَرّ الكرام.
لقد جاء رَيّان لِيُعلّمنا دون أن يدرك وندرك معنى أن تلهج الانسانية جمعاء ليعودَ سالما إلى حضن والديه، جاء ليوقظنا من غفلتنا كي لا نفرط في النفس الإنسانية ولو تطلَبّ الأمرُ حفر الأراضي السبع وشق الجبال وكسر الحجر.
بالفعل لقد استحق رَيان لقب “السي” عن جدارة واستحقاق لأنه أحيا بداخلنا معنى الإنسان، وأوقد فينا شُعلة الأمل في حياة كريمة بعيدة عن أهواء السياسة وأحقادها ودسائسها. فكم في المحن من منح، وكم في هذا الجب من دروس ومن حكم عميقة يجب ان نستوعبها، وهي أن القلوب في شتى بقاع العالم كانت حريصة على استخراج الطفل من عتمة البئر الى النور، حرص أظهر ألفة الناس واجتماع همهم وخاطرهم على فرد واحد منهم. فما أجملها من صورة تجسد روح الأخوة والتضامن والتعاطف والتراحم بين بني البشر في ربوع المعمور رغم كل الفروقات والاختلافات والمسافات، وأنه علينا أن ننتبه ونستيقظ لقضاء أطفالنا فهم أمانة في أعناقنا يجب ان نحافظ عليها. فالهمة التي أشعلت قلوبنا لاستخراج ريان من البئر وتخليصه من المحنة ومعاناته من آلامه جديرة بأن لا تهدأ، جديرة بأن تحرك فينا قيم الانسانية وتحشد هممنا في أن نعيش بكرامة بعيدا عن كل الصراعات الايديولوجية والاستغلال السياسي البئيس.
جميعا كنا ضعفاء أمام صراع الطفل مع احتمال الموت أمام هشاشة جسده الصغير، كلنا تذكرنا لحظتها الى أي حد فكرة الحياة نفسها هشة وضعيفة، وصرنا في لحظة وجيزة أطفالا بلا أحقاد أو خلفيات أو ذغائن بعيدين عن منطق الإنتهازية والحقد والتفرقة والعداء. لكن رغم ذلك قضية ريان أماطت اللثام عن حقيقة إعلامنا المتردي. نعم لقد أصبحت الصحافة التي يصفها بعض المنظرين بالسلطة الرابعة بحاجة إلى سلطة خامسة لتراقبها وتقف عند تجاوزاتها واستغلالها من طرف تجار المآسي. فالصحافة التي من المفروض أن تكون مرآة المجتمع وضميره الحي ورقيبا على السلطات أصبحت اليوم قريبة قاب قوسين أو أدنى من سلطة التفاهة والتضليل والتعتيم والتنميط. قضية ريان عرَّت على واقع الممارسة الصحفية ببلادنا خصوصا الإلكترونية منها التي أصبحت تعتمد في ممارستها على منطق “السيبة” والربح المادي والإثارة الرخيصة لزيادة عدد المشاهدات و”الليكات” وغيرها من أساليب الإتجار في المآسي الانسانية. لقد سقطت بعض المنابر الإلكترونية للأسف الشديد على مدار خمسة أيام في مستنقع العبث والإبتذال والسطحية، وارتكبت العديد من الخروقات المخالفة لميثاق أخلاقيات المهنة، في تجاهل تام للمبادئ الإنسانية التي يتضمنها.
قضية “السي ريان” حركت المياه الراكدة المتعلقة بواقع آلاف المزارعين بشفشاون وسؤال حظ هذه البقعة من المغرب المنسي من مخططات الدولة في قطاع الفلاحة وما نصيبها من التنمية المستدامة. وحتى وإن أسدل الستار على قصة ريان بتواري جثمانه الطاهر الثرى، إلا أن القضية الأساس هي المنطقة التي ترعرع فيها والمناطق المشابهة لها التي تنتظر دورها في طابور الكرامة الانسانية والعيش الكريم. في ذات الوقت كشفت قضية ريان معدن المغاربة وتلاحمهم وتآزرهم في الشدائد والمحن، هي ملحمة حقيقية عنوانها الكرامة المغربية.
فشكرا لك يا ريان فأنت قبل رحيلك الى دار الكرامة جمعت قلوب البشرية جمعاء.
شكرا لك يا ريان فأنت قبل رحيلك أطفئت فتنة أشعلها أهل السياسة والرياضة.
شكرا لك يا ريان فأنت قبل رحيلك أحييت فينا معنى الأمة الانسانية الواحدة والبنيان الواحد.
شكرا لك يا ريان فأنت قبل رحيلك جمعت الملايين حول فكرة الانسان ومعاني الرحمة والحق في الحياة.