حين يتحول الجدار إلى رسالة… أصيلة تنبض بالفن العابر للزمن
على ضفاف الأطلسي، حيث تعانق أمواج البحر أسوار مدينة عتيقة تفوح برائحة التاريخ، تفتح أصيلة ذراعيها كل صيف لاستقبال مبدعين من جهات العالم الأربع، في مشهد يكاد يختزل سرّ الحياة حين تصبح الألوان لغة والفرشاة وسيلة للحوار.
هنا، في هذا الركن الساحر من المغرب، لا تكتفي أصيلة بسحر طبيعتها ولا بجاذبية معمارها الأندلسي، بل تصر كل عام على أن تجعل من الجمال حدثًا حيًّا يتجدد، ومن الثقافة نبضًا يعيد رسم تفاصيل المدينة.
وسط دروبها الضيقة ذات الجدران البيضاء الموشّاة بأزرق البحر، تتحول أصيلة إلى مرسم مفتوح تحت الشمس، حيث تمتزج أصوات الأطفال بوقع الريَش على الجدران. فنانون قدموا من إسبانيا وفرنسا وليتوانيا ورومانيا وسوريا، إلى جانب فنانين مغاربة، يجعلون من المدينة لوحة جماعية نابضة بالحياة.
تحت أنظار الصغار، تُرسم الجداريات بتأنٍّ ودفء، في تداخل بين تجارب فنية عابرة للقارات وبراءة الطفولة التي تحلم بأصيلة أكثر إشراقًا.
هنا لا يُنظر إلى الفن بوصفه ترفًا، بل باعتباره فعلًا يوميًا يُمارَس ويُعاش. فتيات صغيرات بأيدٍ مرتجفة لكن عيونهن تلمع بالأمل، يشاركن في رسم جداريات ملونة تعكس رؤيتهن للعالم وللطبيعة. الفن في أصيلة ليس حكرًا على النخبة، بل هو مساحة حرة لكل من اختار أن يحلم، أن يتأمل، أن يخلق.
وهو أيضًا تربية للجمال الذي يغرس في قلوب الأطفال منذ سنواتهم الأولى، لتكبر المدينة بأحلامهم كما تكبر الجداريات فوق جدرانها.
فعاليات الدورة السادسة والأربعين لموسم أصيلة الثقافي الدولي، التي تنظمها مؤسسة منتدى أصيلة، لا تقتصر على ورشات الصباغة والرسم فقط. بل تمتد إلى فضاءات متعددة تحتضن مشاغل التعبير الأدبي وكتابة الطفل، وورشات المسرح لفائدة الشباب والأمهات بتأطير من جمعية “زيلي آرت”، إلى جانب ورشة للتربية الموسيقية بإشراف معهد البحرين للموسيقى الشرقية. كل ذلك في تناغم يعكس فلسفة الموسم: الثقافة ليست فعلاً ظرفيًا بل أسلوب حياة.
وتمثل هذه الورشات لحظة لقاء بين الأجيال والثقافات، حيث ينصهر القادم من بعيد مع أبناء المدينة، في مساحات للإبداع والتسامح والانفتاح.
ليس غريبًا إذن أن يتحول موسم أصيلة إلى موعد ثابت يُنتظر كل صيف، ليس فقط لمكانته في المشهد الثقافي المغربي بل كواحد من أبرز المنصات الإبداعية عربياً ودولياً.
وفي لحظة امتنان لما تحقق عبر الزمن، لا يمكن للموسم أن يمضي دون أن يستحضر روح مؤسسه وأحد أبرز أعلامه، الراحل محمد بن عيسى، الذي غاب عن هذه الدورة لأول مرة منذ تأسيسها سنة 1978.
رحيله في فبراير الماضي لم يكن نهاية لمسيرة بل بداية عهد جديد يواصل فيه فريق المنتدى العمل بنفس الشغف والإصرار.
كما أكد حاتم البطيوي، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، فإن الحفاظ على روح الموسم واستمراريته هو وفاء لرسالة بن عيسى ورؤيته الثقافية.
وفي هذه المدينة التي تعشق الحياة بقدر ما تعشق البحر، تظل الجداريات شاهدة على عبور الزمن، وتظل أصيلة، برغم الغياب، منارة للأمل والجمال… مدينة تكتب الحياة على جدرانها بألوان لا تبهت.